الفصل الرابع :رحمته عليه الصلاة والسلام في مجال التشريع


المبحث الخامس

التدرج في التشريع


المطلب الأول : التدرج في التشريع: مفهومه والحكمة منه :

أولاً: مفهومه :
من مظاهر رحمته نبينا محمد أنه كان لا يحمل الناس على الأحكام جملة واحدة، إنما كان مبدؤه التدرج، فهو القائل "يسروا ولا تعسروا وبشروا ولا تنفروا"[1] .

ومن ملامح الرحمة في شريعة الإسلام التدرج في التشريع، وقد قُررت في كثير من الأحكام وخاصة في المحرمات كالخمر والربا وذلك تهيئة للنفوس وضمانا للاستجابة لأحكامها . رحمة من المشرع .
وقد كان التدرج في التشريع مسلكًا من مسالك علاج المجتمع وإصلاحه.
أما التدرج في الكشف عن حقيقة حكمٍ ما؛ فإنه يبدأ تلويحًا يفهمه الأذكياء، ثم تزداد الإبانة بما يكاد يوحي بالحكم، ثم يجيء الحكم حاسمًا بالمعنى المراد، وقد تم تحريم الربا والخمر بهذا الأسلوب المتأني، وليس في القرآن نص بإباحة الخمر أو الربا !. 
ثانيًا: الحكمة منه :
والحكمة من التدرج هو ترويض النفوس على تقبل أحكام الله .. والتمهل في استئصال العادات القبيحة المتأصلة  في النفوس لا سيما العادات المتوارثة عبر قرون طويلة . وتخفيفًا على الناس، تماشيًا مع فطرة الإنسان التي يتطلب التعامل معها التزام التدرج لتغييرها وحسن الارتقاء بها،  كما أن التدرج يتلاءم مع منهج التغيير بشكل عام، إذ لا يمكن تغيير أوضاع المجتمعات لتتفق مع الشريعة إلا بأسلوب التدرج .
المطلب الثاني : نماذج للتدرج في التشريع :
أولاً: تحريم الخمور:
 كانت الخمور متعمقة في المجتمع قبل بعثة النبي  عربيًا كان أو عالميًا . وفي البيئة العربية صار شرب الخمر جزءًا من السلوك الإجتماعي الذي يفاخر به ويتغنى به الشعراء، فلم يكن من الحكمة تحريم الخمر مرة واحدة إنما الأنفع والأصلح هو التدرج في التحريم ، ومن ثم حرمت الخمر على أربع مراحل[2]:
المرحلة الأولى: هي قوله تعالى:]‏ تَتَّخِذُونَ مِنْهُ سَكَرًا وَرِزْقًا حَسَنًا ] [النحل: 67[‏‏ففرقت الآية بين السكر والرزق الحسن أي أن السكر ليس من الرزق الحسن.
المرحلة الثانية: قوله تعالى: ]يَسْأَلُونَكَ عَنْ الْخَمْرِ وَالْمَيْسِرِ قُلْ فِيهِمَا إِثْمٌ كَبِيرٌ وَمَنَافِعُ لِلنَّاسِ وَإِثْمُهُمَا أَكْبَرُ مِنْ نَفْعِهِمَا[ [البقرة: الآية: 219] تمهيدًا للتحريم !
المرحلة الثالثة: قوله تعالى: ]يَاأَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لَا تَقْرَبُوا الصَّلَاةَ وَأَنْتُمْ سُكَارَى حَتَّى تَعْلَمُوا مَا تَقُولُونَ [[ النساء: 43]  .ومن ثم كان على المسلم أن يحذر أن يأتيه وقت الصلاة وهو سكران.
المرحلة الرابعة: هي المرحلة الحاسمة: ]يَاأَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِنَّمَا الْخَمْرُ وَالْمَيْسِرُ وَالأَنصَابُ وَالأَزْلامُ رِجْسٌ مِنْ عَمَلِ الشَّيْطَانِ فَاجْتَنِبُوهُ لَعَلَّكُمْ تُفْلِحُونَ[ [المائدة: 90] . ويمضي القرآن موضحا علة التحريم: ]إِنَّمَا يُرِيدُ الشَّيْطَانُ أَنْ يُوقِعَ بَيْنَكُمْ الْعَدَاوَةَ وَالْبَغْضَاءَ فِي الْخَمْرِ وَالْمَيْسِرِ وَيَصُدَّكُمْ عَنْ ذِكْرِ اللَّهِ وَعَنْ الصَّلاةِ فَهَلْ أَنْتُمْ مُنتَهُونَ[ [المائدة: 91] .
ثانيًا: تحريم الربا: 
كان الربا بأنواعه وأشكاله المختلفة عصب الاقتصاد في المجتمع العربي والرومي والفارسي آنذاك، وكانت النقلة الفجائية للتحريم ربما أحدثت خلخلة أدت إلى الانهيار الاجتماعي والاقتصادي ومن ثم كانت الحكمة في أن يتدرج القرآن في تحريمه على مرحلتين:
الأولى: قوله تعالى: ]يَاأَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لا تَأْكُلُوا الرِّبَا أَضْعَافًا مُضَاعَفَةً[ [آل عمران: 130]
الثانية: قوله تعالى: ]يَاأَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اتَّقُوا اللَّهَ وَذَرُوا مَا بَقِيَ مِنْ الرِّبَا إِنْ كُنتُمْ مُؤْمِنِينَ[ [البقرة: 278] .



[1] سبق تخريجه ..
 [2]انظر: محمد الخضري:  تاريخ التشريع الإسلامي، ص21، وانظر: راوية أحمد عبد الكريم الظهار: المقاصد الشرعية للعقوبات في الإسلام، 203

0 commentaires:

إرسال تعليق