الفصل الرابع :رحمته عليه الصلاة والسلام في مجال التشريع


المبحث الثاني
الوسطية والاعتدال

المطلب الأول: شهادة علماء الغرب:
يقول "ول ديورانت"- عن النبي  :
"أوجد بين المسلمين.. درجة من الاعتدال والبعد عن الشهوات لم يوجد لها نظير في
أية بقعة من بقاع العالم"[1].

وهذه الخاصية  تعني أن محمداً في نظرته للأمور وعلاجه للمشكلات يقف موقفا وسطًا لا إفراط فيه ولا تفريط .
" وهذا الاعتدال بدوره يمهد السبيل نحو تقدم الأفراد والمجتمع"[2] على حد قول ماري أوليفر .
فالاعتدال والتوسط في كل شيء – كما يقول "علي  يول" – " هما الفكرة الأساسية للإسلام"[3] .
والحق – كما يقول جورج سارتون -  أن ما يتميز به الشرع الإسلامي من "البساطة والاعتدال، يسرّ لأي إنسان في أي موطن، أن يتقبله وينفذ إلى روحه وجوهره منذ اللحظة الأولى"[4] !
كما أن الشريعة الإسلامية هي أنجح الشرائع في الجمع بين ما هو روحي وما هو مادي .. والتوازن بينهما ..
ولقد أُعجب بهذا التوازن  الباحث الهولندي الدكتور ميليما[5] بين المادة والروح في الإسلام، فقال : ".. لقد أعجبني اهتمام الإسلام بالمادة والروح باعتبارهما قيمتين أساسيتين، فالتطور العقلي والروحي للإنسان مرتبط في الإسلام وفي الفطرة على السواء ارتباطًا وثيقًا لا سبيل إلى فصله بحاجات الجسد"[6].
المطلب الثاني : حثه على الوسطية وتحذيره من التشدد:
يقول إميل درمنغم :  " كان كثير من المسلمين يكثرون من ... الصلاة والصوم، فرأى محمد  أن القصد أولى من الإفراط. فأشار بالاعتدال في التقشف وبترك كل ما يميت النفس، وحدث أن بعضهم قادوا أنفسهم إلى الحج بربط أنوفهم بأرسان الجمال فقطع محمد  هذه الأرسان؛ لأن الله ليست له حاجة بجدع الأنوف !"[7].
ومثال ذلك  قصة الثلاثة الذين سألوا عن عبادة الرسول،  فلما علموا ذلك كأنّهم تقالّوها‍! فقال أحدهم: أمّا أنا فأصوم ولا أفطر، وقال الآخر: أمّا أنا فأصّلي الليل أبدًا، وقال الآخر: لا أتزوجّ النساء، فقال : "  أأنتم الذين قلتم كذا وكذ ؟؟  أمَا والله إني أخشاكم لله وأتقاكم له، لكنيّ أصوم وأفطر، وأصلّي وأرقد، وأتزوج النّساء، فمن رغب عن سنّتي فليس منِّي"[8] !
و قد جاء رجل إلى النبيr فقال: إنّي لأتأخرّ عن صلاة الصّبح من أجل فلان مما يطيل بنا..  قال أبو مسعود الأنصاري - راوي الحديث -: فما رأيتُ النبي  غضب في موعظة قطّ أشدّ ممّا غضب يومئذ، فقال:
 " أيّها الناس !! إن منكم منفّرين ! فأيّكم أمَّ النّاس فليوجز، فإنَّ من ورائه الكبير، والضعيف، وذا الحاجة"[9]  .
و عن أنس بن مالك  أن النبي  رأى شيخًا يهادي بين ابنيه، فقال:
 "ما بال هذا؟" . قالوا: نذر أن يمشي، قال: " إنَّ الله عن تعذيب هذا لنفسه لغني" . وأمره أن يركب[10] ..
ودخل مرَّة المسجد فإذا حبل ممدود بين ساريتين فقال: ما هذا الحبل؟ فقالوا: حبل لزينب، فإذا فترت تعلَّقت به، فقال،  : " حلّوه، ليصلّ أحدكم نشاطه فإذا فتر فليقعد "[11]..
وعن ابن عبّاس- رضي الله عنهما- قال: قال رسول الله،  : "  إيَّاكم والغلوّ في الدّين فإنَّما أهلك من كان قبلكم الغلوّ في الدّين "[12] ..
وعن ابن مسعود قال: قال رسول الله،: " هلك المتنطّعون !!!" قالها ثلاثًا[13] .
وعن أنس بن مالك أن رسول الله،  كان يقول: : " لا تُشّددوا على أنفسكم فيشدِّد الله عليكم، فإنَّ قومًا شدَّدوا على أنفسهم فشدَّد الله عليهم، فتلك بقاياهم في الصَّوامع والدّيارات رهبانيَّة ابتدعوها ما كتبناها عليهم "[14] .
المطلب الثالث : وسطية الإسلام في الأحكام
إن الشرع الإسلامي وسط  في أحكامه وأنظمته القانونية والاجتماعية، وبما في ذلك المجالات الأسرية والمدنية والجنائية والدولية .. :
 فهو وسط في التحليل والتحريم بين اليهودية التي بالغت في التحريم، وكثرت فيها المُحرَّمات.وبين النصرانية التي أسرفت في الإباحة، حتى أحلت الأشياء المنصوص على تحريمها في التوراة، مع أن الإنجيل يعلن أن المسيح لم يجئ لينقض ناموس التوراة، بل ليكمله[15] . ومع هذا أعلن رجال النصرانية أن كل شيء طاهر للطاهرين[16]. فالإسلام قد أحلَّ وحرَّم، ولكنه لم يجعل التحليل ولا التحريم من حق بشر، بل من حق الله وحده، ولم يُحرم إلا الخبيث الضار، كما لم يُحل إلا الطيب النافع، ولهذا كان من أوصاف الرسول عند أهل الكتاب أنه: ]‏ يُحِلُّ لَهُمُ الطَّيِّبَاتِ وَيُحَرِّمُ عَلَيْهِمُ الْخَبَائِثَ وَيَضَعُ عَنْهُمْ إِصْرَهُمْ وَالْأَغْلالَ الَّتِي كَانَتْ عَلَيْهِمْ[ [الأعراف: 157]
والتشريع الإسلامي وسط في شؤون الأسرة، كما هو وسط في شؤونه كلها، وسط بين الذين شرعوا تعدد الزوجات بغير عدد ولا قيد، وبين الذين رفضوه وأنكروه ولو اقتضته المصلحة وفرضته الضرورة والحاجة.
فقد شرع الإسلام الزواج بشرط القدرة على الإحصان والإنفاق، والثقة بالعدل بين الزوجتين، فإن خاف ألا يعدل، لزمه الاقتصار على واحدة، كما قال تعالى: ]فَإِنْ خِفْتُمْ أَلَّا تَعْدِلُوا فَوَاحِدَة[ [النساء: الآية 3]  .
وهو وسط في الطلاق بين الذين حرَّموا الطلاق، لأي سبب كان، ولو استحالت الحياة الزوجية إلى جحيم لا يطاق، كالكاثوليك.. وبين الذين أَرْخَو العِنان في أمر الطلاق، فلم يقيدوه بقيد، أو شرط، فمن طلب الطلاق من امرأة أو رجل كان أمره بيده، وبذلك سهل هدم الحياة الزوجية بأوهى سبب ..أما الشرع الإسلامي فقد شرع الطلاق، عندما تفشل كل وسائل العلاج الأخرى، ولا يجدي تحكيم ولا إصلاح، ومع هذا فهو أبغض الحلال إلى الله، ويستطيع المُطلِّق مرة ومرة أن يراجع مطلقته ويعيدها إلى حظيرة الزوجية من جديد[17].
والشرع الإسلامي – أيضًا - وسط في نظامه الاجتماعي بين (الإشتراكيين) أو(الماركسيين)، الذين يبالغون في حقوق المجتمع ودوره على حساب حقوق الفرد ونوازعه الذاتية وحريته.وبين (الليبراليين) أو (الرأسماليين) الذين يعطون للفرد الحريات المفرطة من غير ضوابط أو آداب على حساب المجتمع أو الجماعة الإنسانية ..



[1] ول ديورانت: قصة الحضارة ، ص 13 / 68 – 69 .
[2] انظر: عرفات كامل العشي: رجال ونساء أسلموا ، 4 / 144
[3] انظر: عرفات كامل العشي: رجال ونساء أسلموا ، 4 / 128 .
[4] جورج سارتون : الشرق الأدنى : مجتمعه وثقافته ( بإشراف كويلر يونغ )، ص 140
[5] الباحث الهولندي ومؤلف عدد من الكتب الإسلامية بالهولندية. انتمى للإسلام عام 1955 خلال رحلة له إلى باكستان بعد تأمل وبحث .
[6] عرفات كامل العشي : رجال ونساء أسلموا ، 6 / 124 – 125
[7] اميل درمنغم : حياة محمد ، ص  297 – 298. ولم أبحث في صحة هذه القصة .
[8] صحيح – رواه  البخاري (6/116). ومسلم بمعناه (2/1020) رقم 1401.
[9] صحيح – رواه البخاري (1/172، 173). ومسلم (1/340) رقم 466، 467
[10] صحيح - رواه البخاري (7/234). ومسلم (3/1263، 1264) رقم 1642، 1643.
[11] صحيح - رواه البخاري (2/48). ومسلم (1/542) رقم (784).
[12] صحيح - رواه النسائي (5/268) برقم 3057 . وابن ماجة (2/1008) برقم 3029 وأحمد (1/215، 347)، وصححه الحاكم (1/466)، ووافقه الذهبي، وصححه - أيضًا- الألباني كما في السلسلة الصحيحة رقم 1283، وصحيح الجامع رقم 2680.
[13] صحيح - رواه مسلم (4/2055) برقم (2670). وأبو داود (4/201) برقم 4608. وأحمد (1/386).
[14] حسن – رواه أبو داود (4/276، 277) رقم 4904، وأبو يعلى، في المطالب العالية (1/117) رقم 422 وفي إسناد هذا الحديث: سعيد بن عبد الرحمن بن أبي العمياء؛ مختلف في توثيقه. قال الحافظ في التقريب ص (238) مقبول. وقال - أيضًا - في التهذيب (4/57): ذكره ابن حبان في الثقات، وروى له أبو داود حديثًا واحدًا.. وذكر هذا الحديث. قال الهيثمي في مجمع الزوائد (6/259): رجاله رجال الصحيح، غير سعيد بن عبد الرحمن بن أبي العمياء وهو ثقة! وضعف هذا الحديث الألباني كما في ضعيف الجامع رقم (6232)، والأقرب حسن هذا الإسناد. والله أعلم.
[15] إنجيل متى (5/17)
[16] رسالة بولس إلى تيطس (1/15).
[17] انظر: يوسف القرضاوي : الخصائص العامة للإسلام ،133 وما بعدها ، وانظر له: الوسطية ودور الإعلام في إبرازها، بحث مقدم  لندوة اقرأ الفقهية (رمضان 1427هـ)

0 commentaires:

إرسال تعليق