الفصل الثاني : رحمته عليه السلام للعالمين في مجال التنوير والحضارة


المبحث الخامس

الخطاب التربوي

لم يكن خطابه صلى الله عليه وسلم إلى الناس خطابًا دكتاتوريًا مستبدًا، أو براجماتيًا نفعيًا، إنما كان خطابه إلى الناس خطابًا تربويًا .. لم يكن يغلب عليه طابع الحاكم بقدر ما غلب عليه طابع المعلم الوقور
الذي يتحدث إلى تلاميذه .. وهذا من تجليات رحمته ..

المطلب الأول : المعلم الرحيم :
كان النبي  هو المعلم الرحيم  والمصلح الكبير لإبناء الإنسانية، علمهم الحياة ، والحضارة، فأصلح شؤونهم بعد فساد، يقول الباحث الهولندي وث ( 1814 – 1899م) :
"لقد جاء قرآن العرب[1] على لسان نبيهم محمد العظيم ! ، وعلمهم كيف يعيشون في هذه الحياة ، وقد وحد صفوفهم وجمع كلمتهم وأدبهم حتى لا ترى أمة من الأمم أحسن منهم، وبالنهاية اعتمدوه في كل أمورهم ، وكان يتلقى الوحي من ربه الذي يوحي إليه ، ثم ينقله إلى الناس ، بعد أن يكتبه له الكتاب الذين انتدبهم لذلك"[2] ..

كما كان النبي في سائر مراحل حياته القدوة الإنسانية والمثل الأعلى والنموذج الأمثل للمعلم الكبير، وقد جاء في القرآن الكريم:] لَقَدْ كَانَ لَكُمْ فِي رَسُولِ اللَّهِ أُسْوَةٌ حَسَنَةٌ   [[ الأحزاب : 21]
"فهو القدوة الطيبة التي أرسلها الله رحمة لنا وحبًا بنا ،حتى نقتفي أثره"[3]
وهذه القدوة التي تمسك بها المسلمون، عادت عليهم بانتشار هذا الدين في تلك الرقعة الفسيحة في الأرض كما يقول توماس آرنولد، و"وقفوا حياتهم على الدعوة إلى الإسلام، متخذين من هدي الرسول مثلاً أعلى وقدوة صالحة"[4].
المطلب الثاني: نماذج رحمته بالمتعلمين :
فمن نماذج رحمته  في التربية ما رواه مُعَاوِيَةَ بنِ الْحَكَمِ السّلَمِيّ قال: صَلّيْتُ مَع رسولِ الله  rفَعَطَسَ رَجُلٌ مِنَ الْقَوْمِ. فَقُلْتُ: يَرْحَمُكَ الله, فَرَمَانِي الْقَوْمُ بِأبْصَارِهِمْ، فَقُلْتُ: وَاثُكْلَ أُمَيّاهُ ! مَا شَأْنُكُم تَنْظُرونَ إلَيّ؟ ! قال: 
فَجَعَلُوا يَضْرِبُونَ بِأيْدِيهِمْ عَلَى أفْخَاذِهِمْ فَعَرَفْتُ أنّهُمْ يُصَمّتُونِي، فَلَمّا رَأيْتُهُمْ يُسكّتُونِي سكَتّ، فَلَمّا صَلّى رسولُ الله - بِأبِي وَأُمّي - مَا ضَرَبَني وَلا قهَرَني وَلا سَبّنِي. ثُمّ قال:"إنّ هَذِهِ الصّلاَةَ لا يَحِلّ فيها شَيْءٌ مِنْ كَلامِ النّاسِ هَذَا. إنّمَا هُوَ التّسْبِيحُ وَالتّكْبِيرُ وَقِرَاءَةُ الْقُرْآنِ"[5].
ومن أعاجيب المواقف التي تدل على سعة صدره ورحمته للمتعلمين، قصة الأعرابي الذي بال في المسجد..  فعن أنس  قال: بينما نحن في المسجد مع رسول الله  إذ جاء أعرابي[6] فقام يبول في المسجد وأصحاب الرسول  يصيحون به: مه مه! (أي اترك)، فقال رسول الله : "لا تزرموه دعوه!" (لا تقطعوا عليه بولته)، فترك الصحابة الأعرابي يقضي بوله، ثم دعا الرسول الأعرابي، فقال رسول الله للأعرابي: " إن المساجد لا تصلح لشيء من هذا البول والقذر؛ إنما هي لذكر الله والصلاة وقراءة القرآن". وهنا قال رسول الله  لإصحابه: "إنما بعثتم ميسرين ولم تبعثوا معسرين صبوا عليه دلوا من الماء". فقال الأعرابي: اللهم ارحمني ومحمدا ولا ترحم معنا أحدا!!! فقال الرسول : "لقد تحجرت واسعًا، (أي ضيقت واسعًا)"[7] .

وهكذا نرى نبي الرحمة  في مثل هذه المواقف، التي يغلب عليها الجانب التربوي السمح، لا الجو العسكري الصارم . وإن كان رسول الله هو "الرجل والمعلم والخطيب ورجل الدولة والمجاهد"[8] في آن واحد .
المطلب الثالث : أساليبه في الخطاب التربوي :
وأساليبه  في الخطاب التربوي والتعليم، رحمة للمتعلمين، رحمة لكل من يستمع إليه ..
فتراه  وهو يحدث الناس، يمهد لحديثه ليفهموه، ويكرر المعلومة ويوكدها ليعقلوها، ويضرب الأمثلة ليصل المعنى إلى السامعين، ويتخولهم بالموعظة مخافة الملل، ويرسم بيده على الأرض، ويستخدم أصابعه ممثلاً...كل هذا رفقًا ورحمة بالمستمعين والمتعلمين[9] .
أولاً: التمهيد والتهيئة:
كان النبي  يمهد للمعلومة قبل إيصالها للمتعلم، بحيث يستوعبها السامع، بسهولة ويسر، ومثال ذلك :
1- ما رواه أبو هريرة  عن النبي  قال: " ألا أدلكم على ما يمحو الله به الخطايا.. ويرفع به الدرجات؟ " قالوا: بلى يارسول الله قال: " إسباغ الوضوء على المكاره.. وكثرة الخطى إلى المساجد... وانتظار الصلاة بعد الصلاة؛ فذلكم الرباط.. فذلكم الرباط... فذلكم الرباط "[10].
2- وعن أبي هريرة أن رسول الله قال: " أتدرون من المفلس؟".
 قالوا: المفلس فينا من لا درهم له ولا متاع. فقال: " إن المفلس من أمتي من يأتي يوم القيامة بصلاة وصيام ويأتي وقد شتم هذا.. وقذف هذا.. وأكل مال هذا.. وسفك دم هذا... وضرب هذا... فيعطى هذا من حسناته وهذا من حسناته... فإن فنيت حسناته قبل أن يقضي ما عليه أخذ من خطاياهم.. فطرحت عليه ثم يطرح في النار "[11] .
ففي المثال الأول مهد للمستمعين قائلاً : " ألا أدلكم على ما يمحو الله به الخطايا.. ويرفع به الدرجات..؟" ، ليتهيىء السامع، ويتجاوب مع السؤال، ويُعمل عقله، في محاولة الإجابة، ومن ثم يقوم النبي بالإجابة على السؤال بنفسه وقد استثار عقل السامع نحو فكرة الموضوع . فتدخل المعلومة إلى العقل، وقد اشتاق إلى المعلومة، كما تشتاق الأرض العطشى للمطر !
وبالمثل في المثال الثاني، فالسامع في اشتياق لمعرفة هذا المفلس وصفاته، بعدما تحرك العقل يمينًا وشمالاً لمعرفة الجواب الصحيح . فلا يزال العقل في حيرة حتى تصل إليه المعلومة الشافية، فتحصل الفائدة وترسخ المعلومة.

ثانيًا: التكرار والإعادة:
فعن أنس بن مالك عن النبي  أنه " كان إذا تكلم بكلمة أعادها ثلاثا حتى تفهم عنه.. "[12].
ومثال ذلك:
1- قوله : " ألا وقول الزور " فما زال يكررها...
2- ويقول ابن عمر: قال النبي  : " هل بلغت؟ " ثلاثًا .
3- وعن  عبد الله بن عمرو عن النبي  قال: " ويل للأعقاب من النار " مرتين أو ثلاثاً.
والتكرار في هذه النماذج  للتفهيم والحفظ. وهذه من قبيل رفقه وتنبيهه للمستمع. 

ثالثًا: التأني أثناء العرض:
فتصف عائشة طريقة عرض النبي  فتقول : " ما كان رسول الله  يسرد كسردكم هذا ولكنه كان يتكلم بكلام بيّن، فصل، يحفظه من يجلس إليه "[13] .
والنبي  بطريقة عرضه هذه، إن دلت على شيء فإنما تدل على رفقه ورحمته بالمستمعين..

رابعًا: مراعاة طاقة المتعلمين:
فلقد كان النبي ، يقتصد في دروسه وخطبه ومواعظه، حتى لا يمل المتعلمين من تعاليمه ، وحتى ينشطوا لحفظها ويسهل عليهم فهمها ..
فقد كان النبي  يحسن اختيار أوقات النشاط الذهني، والاستعداد النفسي لدى المتعلمين.. ومباعدته بين الخطبة وأختها، والموعظة وأختها.. حتى تشتاق النفوس، وتنشرح الصدور لتلقي العلم..
فعن عبد الله بن مسعود  قال: " كان النبي يتخولنا بالموعظة في الأيام كراهة السآمة علينا "[14].

خامسًا: ضرب الأمثال:
وقد كان هذا الأسلوب هو المعتاد والمفضل في منهج النبي  في العرض والتفهيم، ومثال ذلك قوله :"مثل المؤمنين في توادهم وتراحمهم وتعاطفهم مثل الجسد الواحد... إذا اشتكى منه عضو تداعى له سائر الجسد بالسهر والحمى "[15]
وفي ذلك أثر كبير في إيصال المعنى إلى المتعلم، ذلك أنه يقدم القيمة المعنوية في صورة حسية ملموسة، فيربطه بالواقع ويقربه إلى الذهن .
سادسًا: استخدام الوسائط المتعددة:
كان النبي  يستخدم ما يسمى اليوم بالوسائل التعليمية أوالوسائط التوضيحية، لتبيين المعنى، وتوضيح المغزى في عقول السامعين، وشغل كل حواسهم بالموضوع:
ومن هذه الوسائط:
1- التعبير بحركة اليد والأصابع:
كتشبيكه عليه الصلاة والسلام بين أصابعه وهو يبين طبيعة العلاقة بين المؤمن وأخيه. فعن أبى موسى الأشعري ... عن النبي قال: " المؤمن للمؤمن كالبنيان.. يشد بعضه بعضا " وشبك بين أصابعه[16].
2- التعبير بالرسم والمجسمات:
أ) أما الرسم : فعن عبد الله بن مسعود  قال: " خط النبي  خطًا مربعًا.. وخط خطًا في الوسط خارجا منه ـ وقد أحاط به ـ وهذا الذي هو خارج أمله... وهذه الخطوط الصغار الأعراض.. فإن أخطأه هذا؛ نهشه هذا. وإن أخطأه هذا؛ نهشه هذا"[17] .
ففي هذا الحديث بين لهم النبي  بالرسم على الأرض كيف يحال بين الإنسان وبين آماله الكثيرة الواسعة بالموت .. وفيه حض على الاستعداد للموت قبل هجومه المفاجئ.
ب) وأما المجسمات : فعن علي بن أبي طالب  قال: " إن نبي الله  أخذ حريرًا فجعله في يمينه وأخذ ذهبًا فجعله في شماله: ثم قال: " إن هذين حرام على ذكور أمتي... حل لإناثهم "[18].
3- التعليم التطبيقي العملي:
ولقد انتهج الرسول  هذا الأسلوب في التعليم عندما كان يعلم الصحابة الصلاة حيث قال بعد ما فرغ من الصلاة ذات يوم : " أيها الناس إنما صنعت هذا لتأتموا بي ولتعلموا صلاتي "[19] .
كل هذه الوسائط والأساليب من قبيل الرحمة بالمتعلمين، تبين لك عظيم رحمة النبي، وهذا إن دل على شىء فإنما يدل على عظم قدر العلم والمعرفة والثقافة في نفس محمد، وتقديره البالغ لرسالة التربية والتعليم، وممارسته الماهرة لشتى الوسائل التي تفيد المنظومة التربوية ..





[1] بل هو قرآن البشر كلهم !
[2] وث : محمد والقران ، ص 78.
[3] هذه الكلمة للقس السابق الدكتور دُرّاني، انظر: عرفات كامل العشي: رجال ونساء أسلموا ، 4 / 27 – 28 .
[4] توماس آرنولد :الدعوة إلى الإسلام ، ص 27
[5] صحيح - أخرجه مسلم في الصلاة باب تحريم الكلام في الصلاة ونسخ ماكان من إباحة.
[6] هو ذو الخويصرة اليماني رضي الله عنه.
[7] متفقٌ عليه، صحيح البخاري، باب صب الماء على البول في المسجد، رقم 217
[8] هذه العبارة لفيليب حتي: الإسلام منهج حياة ، ص 56
[9] انظر: سعيد رفعت راجح: الوسائط التعليمية في الأحاديث النبوية، بحث منشور على موقع alukah.net
[10] صحيح - رواه مسلم في كتاب الطهارة، باب فضل إسباغ الوضوء على المكاره، رقم 251
[11] صحيح - رواه مسلم في كتاب البر والصلة، باب تحريم الظلم، رقم  2581.
[12] صحيح – رواه  البخاري في كتاب العلم ، باب من أعاد الحديث ثلاثا ليفهم عنه، رقم 95
[13] صحيح -  رواه  الترمذي في كتاب المناقب، باب كيف كان كلام رسول الله صلى الله عليه وسلم، رقم 191، وقال الألباني : صحيح .
[14] صحيح - رواه البخاري في كتاب العلم، باب ما كان النبي صلى الله عليه وسلم يتخولهم بالموعظة، رقم 68.
[15] صحيح - رواه البخاري في كتاب الأدب، باب رحمة الناس والبهائم، رقم 5665.
[16] صحيح - رواه البخاري، بَاب تَشْبِيكِ الْأَصَابِعِ فِي الْمَسْجِدِ وَغَيْرِهِ،  رقم 459
[17] صحيح - رواه البخاري في كتاب الرقاق. باب في الأمل وطوله، رقم 5938
[18] صحيح - رواه أبو داود في كتاب اللباس، كتاب في الحرير للنساء، رقم 3535، وقال الألباني: صحيح.
[19] صحيح - رواه البخاري في كتاب الصلاة، بَاب الْخُطْبَةِ عَلَى الْمِنْبَرِ وَقَالَ أَنَسٌ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ خَطَبَ النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ عَلَى الْمِنْبَرِ،  رقم  866.

0 commentaires:

إرسال تعليق