الفصل السادس : رحمته للعالمين في مجال المرأة والطفل


المبحث الرابع

رحمته للأطفال

المطلب الأول : شهادة علماء الغرب:
يقول السير وليم موير : "وكان سهلاً لين العريكة مع الأطفال، لا يأنف إذا مر بطائفة منهم يلعبون أن يقرئهم السلام !"[1] .

ويقول لويس سيديو: "لا شي أدعى إلى راحة النفس من عناية محمد  بالأولاد. فهو قد
حرّم عادة الوأد، وشغل باله بحال اليتامى على الدوام.. وكان يجد في ملاحظة صغار الأولاد أعظم لذة. ومما حدث ذات يوم أن كان محمد يصلي فوثب الحسين بن علي [رضي الله عنهما] فوق ظهره فلم يبال بنظرات الحضور فانتظر صابرًا إلى حين نزوله كما أراد. "[2] .

ولقدكافح النبيr في سبيل استرداد حقوق الأطفال المسلوبة، عبر العصور الغابرة - خاصة في الميراث – بعدما كانت العصور الجاهلية تحرم الأطفال من الميراث، وتعتبر أن من لهم الحق في الميراث هم الذين يتستطيعون جلب الغنائم أو يمتطون الخيل بمهارة وفروسية !..
كما أن محمداً  حمَّل الأسرة كلها أمانة رعاية الأطفال وصيانة حقوقهم.
فكانت الأسرة الإسلامية - كما يقول جاك ريسلر-:" ترعى دائمًا الطفل، وصحته، وتربيته، رعاية كبيرة. وترضع الأم هذا الطفل زمنًا طويلاً، وأحيانًا لمدة أكثر من سنتين، وتقوم على تنشئته بحنان وتغمره بحبها وباحتياطات متصلة. وإذا حدث أن أصاب الموت بعض الأسرة، وأصبحوا يتامى، فإن أقرباءهم المقربين لا يترددون في مساعدتهم وفي تبنّيهم"[3]
 ولا فرق في ذلك بين ذكر وأنثى[4] ..
المطلب الثاني : نماذج رحمته للأطفال :
أولاً : أرحم البشر بالعيال:
يقول أنس بن مالك:
"مَا رَأَيْتُ أَحَدًا كَانَ أَرْحَمَ بِالْعِيَالِ مِنْ رَسُولِ اللَّهِ "[5].
قال بريدة قال : كان رسول الله  يخطبنا إذ جاء الحسن والحسين عليهما قميصان أحمران يمشيان ويعثران [ يتعثران في المشي ] فنزل رسول الله  من المنبر فحملهما ووضعهما بين يديه ثم قال : " صدق الله ] إِنَّمَا أَمْوَالُكُمْ وَأَوْلَادُكُمْ فِتْنَةٌ [ [ سورة التغابن: الآية15]،  نظرت إلى هذين الصبيين يمشيان ويعثران فلم أصبر حتى قطعت حديثي ورفعتهما "[6] .
وعن شداد بن أوس قال :
خَرَجَ عَلَيْنَا رَسُولُ اللَّهِ  فِي إِحْدَى صَلَاتَيْ الْعِشَاءِ وَهُوَ حَامِلٌ حَسَنًا أَوْ حُسَيْنًا، فَتَقَدَّمَ رَسُولُ اللَّهِ فَوَضَعَهُ، ثُمَّ كَبَّرَ لِلصَّلَاةِ فَصَلَّى فَسَجَدَ بَيْنَ ظَهْرَانَيْ صَلَاتِهِ سَجْدَةً أَطَالَهَا . قال شداد :  فَرَفَعْتُ رَأْسِي وَإِذَا الصَّبِيُّ عَلَى ظَهْرِ رَسُولِ اللَّهِ  وَهُوَ سَاجِدٌ فَرَجَعْتُ إِلَى سُجُودِي فَلَمَّا قَضَى رَسُولُ اللَّهِ  الصَّلَاةَ قَالَ النَّاسُ: يَا رَسُولَ اللَّهِ ! إِنَّكَ سَجَدْتَ بَيْنَ ظَهْرَانَيْ صَلَاتِكَ سَجْدَةً أَطَلْتَهَا حَتَّى ظَنَنَّا أَنَّهُ قَدْ حَدَثَ أَمْرٌ أَوْ أَنَّهُ يُوحَى إِلَيْكَ . قَالَ : "كُلُّ ذَلِكَ لَمْ يَكُنْ ، وَلَكِنَّ ابْنِي ارْتَحَلَنِي فَكَرِهْتُ أَنْ أُعَجِّلَهُ حَتَّى يَقْضِيَ حَاجَتَهُ "[7] !
وعن ثَابِت عَنْ أَنَس : أَخَذَ النَّبِيّ  إِبْرَاهِيم فَقَبَّلَهُ وَشَمَّهُ[8].
ويقول أنس :
 كان إبراهيم ( ابن محمد ) مسترضعًا له في عوالي المدينة، فكان ينطلق ونحن معه فيدخل البيت وإنه ليدخن، وكان ظئره قينًا فيأخذه فيقبله ثم يرجع[9].

ثانيًا : توبيخهr للغلاظ مع الأطفال:
عن أَبي هُرَيْرَةَ قالَ: أَبْصَرَ اْلأَقْرَعُ بنُ حَابِسٍ الّنبيّ  وهُوَ يُقَبّلُ الْحَسَنَ فقالَ إنّ لي مِنَ الْوَلَدِ عَشَرَةً ما قَبّلْتُ أحَداً مِنْهُمْ، فقالَ رَسُولُ الله: "إنّهُ مَن لاَ يَرْحَمْ لا يُرْحَمْ" [10].
وهو نداء إلى غلاظ القلوب عامة، وإلى المسيئين للأطفال خاصة..
ثالثًا : دعاؤه  للأطفال  :
عن عائشة :
أن رسول الله  كان يؤتى إليه بالصبيان "فيبرّك عليهم "– أي يدعو لهم بالبركة، "ويحنكهم"[11] – أي يضع في أفواههم التمر اللين الذي مضغه في حنكه الشريف.
وعن ابن عباس قال : كَانَ النَّبِيُّ  يُعَوِّذُ الْحَسَنَ وَالْحُسَيْنَ وَيَقُولُ :  إِنَّ أَبَاكُمَا [ إبراهيم عليه السلام ] كَانَ يُعَوِّذُ بِهَا إِسْمَاعِيلَ وَإِسْحَاقَ : أَعُوذُ بِكَلِمَاتِ اللَّهِ التَّامَّةِ مِنْ كُلِّ شَيْطَانٍ،  وَهَامَّةٍ وَمِنْ كُلِّ عَيْنٍ لَامَّةٍ"[12].
وعن أسامة بن زيد عَنْ النَّبِيِّ  أَنَّهُ كَانَ يَأْخُذُهُ وَالْحَسَنَ وَيَقُولُ : "اللَّهُمَّ إِنِّي أُحِبُّهُمَا فَأَحِبَّهُمَا "[13].
وقال البراء : رَأَيْتُ النَّبِيَّ  وَالْحَسَنُ بْنُ عَلِيٍّ عَلَى عَاتِقِهِ، يَقُولُ :" اللَّهُمَّ إِنِّي أُحِبُّهُ فَأَحِبَّهُ"[14] .
رابعًا : سلامه على الأطفال وعطفه عليهم:
لقد كان محمد  يسلم على الأطفال في الطرقات، ويمسح على رؤوسهم ووجوههم، فعن جَابِرِ بن سَمُرَةَ ، قَالَ : صَلَّيْتُ مَعَ رَسُولِ اللَّهِ  الأُولَى ثُمَّ خَرَجَ إِلَى أَهْلِهِ ، وَخَرَجْتُ مَعَهُ فَاسْتَقْبَلَهُ وِلْدَانُ الْمَدِينَةِ، فَجَعَلَ يَمْسَحُ خَدَّيْ أَحَدِهِمْ وَاحِدًا وَاحِدًا ، قَالَ : وَأَمَّا أنا فَمَسَحَ خَدِّي فَوَجَدْتُ لِيَدِهِ بَرْدًا ورِيحًا كَأَنَّمَا أَخْرَجَهَا مِنْ جُونَةِ عَطَّارٍ r[15].
خامسًا : رفقه بالأطفال إذا صلى بهم :
 يقول " كولن " :
"كانت صلاة رسول الله  طويلة، ولا سيما النوافل منها؛ إذ كانت تتجاوز طاقة الصحابة، ولكنه عندما يقف للصلاة يريد إطالتها ويسمع بكاء طفل في أثنائها؛ إذ به يخفف صلاته ويتَجوَّز فيها؛ ذلك لأن النساء كن يقفن للصلاة خلف رسول الله أي يشتركن في أداء صلاة الجماعة خلفه، فخوفاً من أن تكون أم ذلك الطفل موجودة بين المصليات فإنه كان يخفف صلاته، ويسرع بها لكي يريح قلب تلك الأم"[16].
يقول النبي  :  "إني لأقوم في الصلاة أريد أن أطول فيها فأسمع بكاء الصبي فاتجوز في صلاتي كراهية ان أشق على أمه"[17] .
وعن أَنَسَ بْنَ مَالِكٍ قال:
مَا صَلَّيْتُ وَرَاءَ إِمَامٍ قَطُّ أَخَفَّ صَلَاةً وَلَا أَتَمَّ مِنْ النَّبِيِّ ، وَإِنْ كَانَ لَيَسْمَعُ بُكَاءَ الصَّبِيِّ فَيُخَفِّفُ مَخَافَةَ أَنْ تُفْتَنَ أُمُّهُ[18].
سادسًا: تعزيزه  للطفل الصادق :
فلما نزل القرآن، مصدقًا لكلام عمير بن سعيد، عندما قال قول الصدق والحق في رجل شتم النبي ، أخذ النبي  بأذن عمير فقال له النبي - وهو يُحَيِّيه على الصدق- : "  وفت أذنك يا عمير.. وصدّقَكَ رَبُكَ"[19].
سابعًا: ملاطفته للأطفال:
  عن أنس بن مالك قال:
كان رسول الله  أحسن الناس خلقًا، وكان لي أخ يقال له أبو عمير، فكان إذا جاء رسول الله  فرآه قال " أبا عمير ما فعل النغير ؟"[20] ..
والنغير طائر صغير كان أبو عمير يلعب معه !
وقد كان يصلي فإذا سجد ؛ وثب الحسن والحسين على ظهره فإذا أراد الناس أن يمنعوهما ؛ أشار إليهم أن دعوهما ..
قال أبو هريرة : كنا نصلي مع رسول الله  العشاء فكان يصلي، فإذا سجد وثب الحسن والحسين على ظهره وإذا رفع رأسه أخذهما [ بيده من خلفه أخذا رفيقًا ] فوضعهما وضعًا رفيقًا ، فإذا عاد عادا فلما صلى [ وضعهما على فخذيه ] جعل واحدًا هاهنا وواحدًا هاهنا .. ! قال أبو هريرة :
 فجئته فقلت : يا رسول الله ألا أذهب بهما إلى أمهما ؟ قال : لا ..!"[21] .
ثامنًا: رحمته بغلام يهودي: 
فعَنْ أَنَسٍ قَالَ :
كَانَ غُلَامٌ يَهُودِيٌّ يَخْدُمُ النَّبِيَّ  فَمَرِضَ فَأَتَاهُ النَّبِيُّ  يَعُودُهُ فَقَعَدَ عِنْدَ رَأْسِهِ فَقَالَ لَهُ : "أَسْلِمْ" فَنَظَرَ إِلَى أَبِيهِ وَهُوَ عِنْدَهُ .فَقَالَ : لَهُ أَطِعْ أَبَا الْقَاسِمِ  فَأَسْلَمَ ، فَخَرَجَ النَّبِيُّ وَهُوَ يَقُولُ:  " الْحَمْدُ لِلَّهِ الَّذِي أَنْقَذَهُ مِنْ النَّارِ! !"[22] .

وهكذا نرى أعلى درجات الرحمة في شخصية هذا النبي الكريم، الذي يطلب من غلام يعالج سكرات الموت، أن ينطق بالشهادتين في لاحظاته الأخيره، لتكونا برهاناً لرسول الله يشفع به أمام الله لهذا الغلام .. يوم القيامة ! 
وهذا الشعور من رسول الله  يبين عمق عاطفته النبيلة الجياشة تجاه سائر البشر على اختلاف عقائدهم ودياناتهم .
إتها الرغبة الشديدة الفياضة في هداية البشر ، رغم جهلهم المطبق برسالة محمد – إلا من رحم الله -، فهو يدعوهم إلى الجنة، وهم يتفلتون منه، كما في حديثه، الذي يمثِّل فيه لرحمته بتصوير رائع بليغ، فيقول: "مَثَلِي وَمَثَلُكُمْ: كَمَثَلِ رَجُلٍ أَوْقَدَ نَارًا فَجَعَلَ الْجَنَادِبُ وَالْفَرَاشُ يَقَعْنَ فِيهَا وَهُوَ يَذُبُّهُنَّ عَنْهَا، وَأَنَا آخِذٌ بِحُجَزِكُمْ عَنْ النَّارِ وَأَنْتُمْ تَفَلَّتُونَ مِنْ يَدِي"[23] .




[1] وليم موير : حياة محمد 15 .
[2] لويس سيديو : تاريخ العرب العام ، ص 110 -111
[3] جاك ريسلر: الحضارة العربية ، ص 53
[4] وقد أفردنا مبحثاً خاصاً برحمته للبنات.
[5] صحيح – رواه مسلم، باب رحمته صلى الله عليه وسلم -، برقم 4280
[6] صحيح - . رواه الترمذي وأبو داود والنسائي، وصححه الألباني في مشكاة المصابيح برقم 6159
[7] صحيح – راوه النسائي ، باب بَاب هَلْ يَجُوزُ أَنْ تَكُونَ سَجْدَةٌ أَطْوَلَ مِنْ سَجْدَةٍ، رقم 1129، وصححه الألباني في صحيح وضعيف سنن النسائي.
[8] ابن حجر: فتح الباري ج 10، ص427.
[9] صحيح – رواه مسلم برقم 2316
[10] صحيح – رواه البخاري، باب رحمة الولد وتقبيله،برقم 5538
[11] صحيح – رواه مسلم (3 / 1691) برقم  2147
[12] صحيح – رواه البخاري ، برقم 3120
[13] صحيح – رواه البخاري، باب مناقب الحسن والحسين، رقم 3464
[14] صحيح – رواه البخاري، باب مناقب الحسن والحسين، رقم 3466
[15] صحيح - رواه الطبراني في المعجم الكبير ، برقم 1911، وصححه الألباني في مشكاة المصابيح، برقم 5789
[16]  محمد فتح الله كولن : النور الخالد محمد صلى الله عليه وسلم مفخرة الإنسانية ، 2/33
[17] صحيح - رواه البخاري عن ابن ربعي، بَاب مَنْ أَخَفَّ الصَّلَاةَ عِنْدَ بُكَاءِ الصَّبِيِّ، برقم 666
[18] صحيح – رواه البخاري، بَاب :مَنْ أَخَفَّ الصَّلَاةَ عِنْدَ بُكَاءِ الصَّبِيِّبرقم 667،
[19] مصنف عبد الرزاق (10 / 47 ) 18304، والقصة معروفة في كتب السيرة.
[20] صحيح – رواه البخاري، برقم 5850، و مسلم  برقم 2150
[21] صحيح – السلسلة الصحيحة برقم 3325
[22] صحيح – رواه البخاري ، برقم 1268
[23] صحيح - صحيح مسلم ، برقم 4236

0 commentaires:

إرسال تعليق